قال تعالى:
<< وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا >> الإسراء:[12]
في هذه الآية الكريمة يذكرنا ربنا تبارك وتعالى بأنه قد جعل الليل والنهار آيتين من آياته الكونية المبهرة التي تدل على طلاقة قدرته، وبالغ حكمته، وبديع صنعه في خلقه، فاختلاف هيئة كل من الليل والنهار في الظلمة والنور، وتعاقبهما على وتيرة رتيبة منتظمة ليدل دلالة قاطعة على أن لهما خالقاً قادراً عليماً حكيماً. والآية في اللغة العلامة والجمع آي، وآيات والآية من كتاب االله جماعة حروف تكون كلمة أو مجموعة كلمات تبني منها الآية لتحمل دلالة معينة.
الليل والنهار آيتان كونيتان عظيمتان من آيات االله في الخلق، تشهدان بدقة بناء الكون، وانتظام حركة كل جرم فيه، وإحكام السنن
الضابطة له، ومنها تلك السنن الحاكمة لحركات كل من الأرض والشمس، والتي تتضح بجلاء في التبادل المنتظم للفصول المناخية،
والتعاقب الرتيب لليل والنهار، وما يصاحب ذلك كله من دقة وإحكام بالغين. فنحن نعلم اليوم أن التبادل بين الليل المظلم والنهار
المنير هو من الضرورات اللازمة للحياة على الأرض، ولاستمرارية وجود تلك الحياة بصورها المختلفة حتى يرث االله تعالى
الأرض وعليها.
فبهذا التبادل بين الظلام والنور يتم التحكم في درجات الحرارة والرطوبة، وكميات الضوء اللازمة للحياة في مختلف بيئاتها
الأرضية، كما يتم التحكم في العديد من الأنشطة والعمليات الحياتية مثل التنفس، والنتح، والتمثيل الضوئي، والأيض، وغيرها، ويتم
ضبط التركيب الكيميائي للغلاف الغازي المحيط بالأرض، وضبط صفاته الطبيعية، وتتم دورة المياه بين الأرض والسماء والتي
لولاها لفسد كل ماء الأرض. كما يتم ضبط حركات كل من الأمواج المختلفة في البحار، والمد والجزر، والرياح والسحاب، ونزول
المطر بإذن االله، ويتم تفتيت الصخور وتكون التربة بمختلف أنواعها ومنها الصالحة للإنبات وغير الصالحة، ومنها القادرة على
خزن كل من الماء والنفط والغاز ومنها غير القادرة على ذلك، وتركيز مختلف الثروات الأرضية، وغير ذلك من العمليات
والظواهر التي بدونها لا يمكن للأرض أن تكون صالحة للحياة.
وتعاقب الليل والنهار على نصفي الأرض هو كذلك ضروري، لأن جميع صور الحياة الأرضية لا تتحمل مواصلة العمل دون راحة
وإلا هلكت، فالإنسان والحيوان والنبات، وغير ذلك من أنماط الحياة البسيطة، يحتاج إلى الراحة بالليل لاستعادة النشاط بالنهار أو عكس ذلك بالنسبة لأنماط الحياة الليلية. فالإنسان - على سبيل المثال - يحتاج إلى أن يسكن بالليل فيخلد إلى شيء من الراحة والعبادة والنوم مما يعينه على استعادة نشاطه البدني والذهني والروحي، وعلى استرجاع راحته النفسية، واستجماع قواه البدنية حتى يتهيأ للعمل في النهار التالي وما يتطلبه ذلك من قيام بواجبات الاستخلاف في الأرض.
وقد ثبت بالتجارب العملية والدراسات المختبرية أن أفضل نوم الإنسان هو نومه بالليل، خاصة في ساعات الليل الأولى، وأن إطالة النوم بالنهار ضار بصحته لأنه يؤثر على نشاط الدورة الدموية تأثيراً سلبياً، ويؤدي إلى شيء من التيبس في العضلات، وتراكم الدهون على مختلف أجزاء الجسم، وإلى زيادة في الوزن. كما يؤدي إلى شيء من التوتر النفسي والقلق، وربما كان مرد ذلك إلى الحقيقة القرآنية التي مؤداها أن االله تعالى قد جعل الليل لباسا، وجعل النهار معاشا، وإلى الحقيقة الكونية التي مؤداها أن الانكماش الملحوظ في سمك طبقات الحماية في الغلاف الغازي للأرض ليلا وتمددها نهارا يؤدي إلى زيادة قدراتها على حماية الحياة الأرضية بالنهار عنها في الليل حين ترق طبقات الحماية الجوية تلك رقة شديدة قد تسمح لعدد من الأشعات الكونية بالنفاذ إلى لطبقات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض، وهي أشعة مهلكة مدمرة لمن يتعرض لها لمدد كافية. ومن هنا كان ذلك الأمر القرآني بالاستخفاء في الليل والظهور في النهار، ومن هنا أيضاً كان أمره إلى خاتم الأنبياء والمرسلين صلى االله عليه وسلم أن يستعيذ باالله تعالى من شر الليل إذا دخل بظلامه، وأن يلتجئ إلى االله ويعتصم بجنابه من أخطار ذلك، فقال عز من قائل: << وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَالفلق >> .[3] سورة الفلق .فهذا الشر ليس مقصوراً على الظلمة وما يمكن أن يتعرض فيها المرء إلى مخاطر البشر، بل قد يمتد إلى مخاطر الكون التي لا يعلمها إلا االله تعالى.
ثم إن هذا التبادل في اليوم الواحد بين ليل مظلم ونهار منير يعين الإنسان على إدراك حركة الزمن، وتأريخ الأحداث، وتحديد
الأوقات بدقة وانضباط ضروريين للقيام بمختلف الأعمال، ولأداء جميع العبادات، وللوفاء بمختلف العهود والحقوق والمعاملات
وغير ذلك من الأنشطة الإنسانية، فلو كان الزمن كله على نسق واحد من ليل أو نهار لما استقامت الحياة وما استطاع الإنسان أن
يميز من حياته ماضياً أو حاضراً أو مستقبلاً، وبالتالي لتوقفت الحياة. ولذلك يقول ربنا تبارك وتعالى في ختام الآية: << لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ >> ولذلك أيضاً يمن علينا ربنا - وهو تعالى صاحب الفضل والمنة - بتبادل الليل
والنهار في العديد من آيات القرآن الكريم. ومع إيماننا بذلك وتسليمنا به يبرز التساؤل في الآية الكريمة التي نحن بصددها عن
مدلول آيتي الليل والنهار، وعن كيفية محو آية الليل وإبقاء آية النهار مبصرة.
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
URL | |
HTML | |
BBCode |
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق